فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
| فهرس عناوين الكتب
|
|
الفصل الثالث : دور الإمام (ع) في الاعلام الرسالي الإعلام الرسالي هو الجهر بالقيم التي يدعو إليها الوحي . ولعل الكلمة المرادفة له في المنطق الإسلامي " الأذان " . وإذا كانت الدعوة إلى اللـه هي الركيزة الأولى لرسالات اللـه ، فإن الإعلام جانب أساسي منها . ولقد كانت واقعة الطف الرهيبة الفجيعة واحدةً من أعظم الإثارات الإعلامية . أولم يقل السبط الشهيد أنا قتيل العبرة ؟. أولم يتواتر عن أئمة أهل البيت (ع) فضلُ البكاء على الحسين (ع) وزيارة قبره ، والدعاء تحت قبته ؟. وهذا الدور الإعلامي الذي كان الهدف من استشهاد الإمام الحسين (ع) اضطلع به الإمام زين العابدين (ع) ، ومعه البقية العائدة من كربلاء ، وبالذات عقيلة الهاشميين زينب الكبرى (ع) . وبقي الإمام (ع) خمساً وثلاثين سنة قائماً بهذا الدور حتى رسَّخ في ضمير الأمة قواعدَ الإعلام الحسيني المبارك على النحو التالي : ألف : كان أول وأعظم هدف لوسائل الإعلام الحسيني ، إظهار الجانب المأساوي لواقعة الطف ، لتبقى راسخة في ضمير الأجيال المتصاعدة ، ولتكون شعلة متقدة في أفئدة المؤمنين ، تستثير فيهم حوافز الخير والفضيلة ، وتدعوهم إلى الإجتهاد والإيثار ، وليقولوا على مدى العصور : يا ليتنا كنَّا معك فنفوز فوزاً عظيماً ، وليكونوا أبداً جنود الحق المتفانين في سبيل اللـه لكي لا تتكرر فاجعة الطف مرة أخرى ؛ أو ليكونوا . إذا وقعت مشاركين فيها بسهم واق ، ومدافعين عن الحق بكل قواهم . ومن هنا نجد الإمام زين العابدين (ع) واحداً من البكَّائين الخمسة في عداد آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد عليهم جميعاً صلوات اللـه وسلامه . لقد بقي باكياً بعد واقعة الطف ثلاثاً وثلاثين عاماً ، ما وُضع أمامه طعام إلاّ وخنقته العبرة وقال : لقد قتل ابن بنت رسول اللـه جائعاً ، فإذا جيء إليه بشراب انهالت دموعه فيه وقال : لقد قتل ابن بنت رسول اللـه عطشاناً . وإذا مرّ على جزّار استوقفه وسأله : هل سقى الشاة ماءً ، ثم طفق يبكي ويقول : لقد قتلوا سبط رسول اللـه ظامئاً على شط الفرات . وقد ضج لبكائه مواليه وأهل بيته . قال له أحد مواليه مرة : جُعلت فداك يابن رسول اللـه ، إني أخاف أن تكون من الهالكين ، قال : إنما أشكو حزني إلى اللـه ، وأعلم من اللـه مالا تعلمون . إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة 40 . باء : ولم يكن البُكاء الرسالة الوحيدة التي حملها الإمام زين العابدين (ع) إلى التاريخ ، فقد كانت رسالة الكلمة الثائرة هي المشكاة الصافية التي تشع من خلالها رسالة الكلمة . فمنذ الأيام الأولى لملحمة كربلاء عملت كلماتُ آل البيت (ع) وفي طليعتهم الإمام السجاد والصديقة زينب الكبرى (ع) في هدم جدار الصمت والتردد والخوف ، في الكوفة ، وفي الشام ، ثم في المدينة المنورة . وحينما فرّق عامل يزيد " الأشدق " أهل البيت في البلاد الإسلامية خشية انتفاضة أهل المدينة حسب بعض الروايات التاريخية ، رُفِعَ لظُلامة الحسين (ع) في كل حاضرة منبر وجهاز إعلامي مقتدر . ومن أشهر خطب الإمام (ع) تلك الرائعة التي أوردها في مسجد الشام ، والتي تحتوي على منهاج المبنر الحسيني الذي لو اتَّبعناه ، لكان أبلغ أثراً وأنفذ في أفئدة الناس . وها نحن نتدبر في مفردات هذا المنهج قبل أن نستوحي معاً نص الخطاب : ألف : حدد الإمام أهداف المنبر إذ قال للخاطب الذي سبقه إلى المنبر : اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوَّأ مقعدك من النار .. وتوجه إلى يزيد وقال له : أتأذن أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه لله رضاً ولهؤلاء الجلساء نفع وثواب . إذاً لابد أن تكون توجيهات الخطيب خالصة لوجه اللـه ، وأن يبحث عما يرضي اللـه ، حتى ولو أسخط الطغاة ، وأن ينطق بما ينفع الناس لا بما يضرهم . باء : ثم بدأ الحديث بذكر اللـه سبحانه ، وحذَّر الناس عقابه ، وذكَّرهم بالموت والفناء ، ولا أبلغ من الموت موعظة ولا من الفناء رادعاً . وجاء في بعض الروايات أن الناس قد أجهشوا بالبكاء عندما أكمل الإمام (ع) حديثه عن الآخرة ، مما جعل قلوبهم خاشعة تستقبل ما بيَّنه بعدئذ من البصائر السياسية . جيم : وبيَّن الإمام (ع) خطه السياسي الأبلج الذي ينتهي إلى سيد المرسلين محمد وأهل بيته المعصومين ( صلَّى اللـه عليه وعليهم اجمعين ) ، وأسهب في بيان صفاتهم التي هي المثل الأعلى في اليقين والإستقامة والجهاد . دال : وأشهر الإمام (ع) ظُلامة السبط الشهيد ، وحملها راية حمراء تدعو الضمائر الحرة إلى الجهاد من أجل اللـه وفي سبيل نصرة المظلومين .. وهذه هي أشد محاور المنبر الحسيني : إثارةً للعواطف وتهييجا لكوامن الحزن والأسى . هاء : وبعد أن أمر يزيد بأن يقطع عليه المؤذن حديثه لم يترك الإمام (ع) المنبر كما كان معهوداً ، وإنما استوقفه عند الشهادة الثانية وحمّل يزيد مسؤولية قتل والده ، مما يعني - في لغة العصر - وضع النقاط على الحروف . فلا يكفي للخطيب الحسيني أن يشير من بعيد إلى الحقائق السياسية ، بل لابد أن يصرّح بها بوضوح حتى يتبصر الناس وتتم الحجة عليهم . وهكذا استطاع الإمام السجاد (ع) عبر هذا المنهاج الرائع أن يزلزل عرش يزيد زلزالاً حتى تنصَّل من جريمته النكراء ، وتوجه إلى الجماهير الغاضبة التي كادت تبتلعه قائلاً : أيها الناس ، أتظنون أني قتلت الحسين ، فلعن اللـه مَن قتله عبيد اللـه بن زياد عاملي بالبصرة 41 . اما خطاب الإمام (ع) الذي ينبغي أن يُتخذ مثلاً للخطَب الحسينية ، فهو التالي : " أيها الناس أحذركم الدنيا وما فيها ، فإنها دار زوال ، قد أفنت القرون الماضية ، وهم كانوا أكثر منكم مالاً ، وأطول أعماراً . وقد أكل التراب جسومهم ، وغيَّر أحوالهم . أفتطمعون بعدهم ، هيهات هيهات ، فلابد من اللحوق والملتقى . فتدبَّروا ما مضى من عمركم وما بقي ، فافعلوا فيه ما سوف يلتقي عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل وفروغ الأمل ، فعن قريب تؤخذون من القصور إلى القبور ، وبأفعالكم تحاسبون . فكم - واللـه - من فاجرٍ قد استكملت عليه الحسرات ، وكم من عزيز قد وقع في مهالك الهلكات ، حيث لا ينفع الندم ، ولا يُفات من ظَلم .. ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربُّك أحداً 42 . قالوا : فضج الناس بالبكاء لبالغ أثر مواعظه في أنفسهم ثم قال : " أيها الناس ، أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع : أُعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين . وفُضِّلنا بأن منَّا النبيَّ المختار محمداً ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد اللـه وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمة . مَن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي . أيها الناس ! أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن مَن حَمل الرُّكن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجَّ ولبَّى ، أنا ابن من حُمل على الْبُراق في الهواء ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلَّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا اللـه . أنا ابن مَن ضرب بين يدي رسول اللـه بسيفَين ، وطعن برمحَين ، وهاجر الهجرتَين ، وبايع البيعَتين وقاتل ببدر وحنَين ، ولم يكفر باللـه طرفة عَين . أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وافضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين . أنا ابن المؤيد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، المجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأول السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي اللـه على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين اللـه ، وولي أمر اللـه ، وبستان حكمة اللـه ، وعيبة علمه . سمحٌ ، سخيٌّ ، بهيٌّ ، بهلولٌ ، زكيٌّ ، أبطحيٌّ ، رضيٌّ ، مقدامٌ ، همامٌ ، صابرٌ ، صوام ، مهذبٌ ، قوامٌ ، قاطعُ الأصلاب ، ومفرقُ الأحزاب ، أربطهم عناناً ، وأثبتهم جَناناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدهم شكيمة ، أسد باسل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنَّة وقربت الأعنَّة طحن الرحا ، ويذروهم فيها ذرو الريـح الهشيم ، ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكيٌّ مدنيٌّ خيفيٌّ عقبيٌّ بدريٌّ أحديُّ شجريٌّ مهاجريٌّ . من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعَرين وأبو السبطَين : الحسن والحسين ، ذاك جدي علي بن أبي طالب . ثم قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ... فلم يزل يقول : أنا أنا ، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد ( لعنه اللـه ) أن يكون فتنة ، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام . فلما قال المؤذن : اللـه أكبر قال علي : لا شيء أكبر من اللـه ، فلما قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللـه ، قال علي بن الحسين : شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ، فلما قال المؤذن : اشهد أن محمداً رسول اللـه ، التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال : محمد هذا جدِّي أم جدُّك يا يزيد ؟. فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت ، وإن زعمت أنه جدي فَلِمَ قتلتَ عِترَته ؟ قال : وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة وتقدم يزيد فصلَّى صلاة الظهر " 43 .
|
|
فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
| فهرس عناوين الكتب
|